أثر حكومة اليمين الإسرائيلي على المقاومة في غزة

  • الإثنين 15 يناير 2018 08:37 م

 

أثر حكومة اليمين الإسرائيلي على المقاومة في غزة

شهدت الانتخابات الإسرائيلية الثامنة عشر للعام 2009 تقاربا ملحوظا في المواقف الحزبية من قضايا الساعة المطروحة، لاسيما فيما يتعلق بالصراع الدائر مع الفلسطينيين منذ أكثر من ثماني سنوات مع انطلاق انتفاضة الأقصى، وربما يعود هذا التقارب الحزبي في المواقف السياسية لعدد من الأسباب، فلسطينية وإسرائيلية، أهمها:

  1. الأحداث المتلاحقة التي تشهدها الساحة الفلسطينية وفاجأت الأوساط الإسرائيلية، كما أوساط سياسية محلية وإقليمية ودولية، خاصة مع سيطرة حركة حماس على قطاع غزة، وتحولها إلى عدو حقيقي ترى فيها إسرائيل خطرا وجوديا على مشروعها السياسي في المنطقة، مما عمل على تضييق مساحات الفروقات بين هذه الأحزاب من حركة حماس.
  2. اقتراب الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي من القضايا الأكثر إشكالا وجدلا، لاسيما فيما يتعلق بالحدود الدائمة والكتل الاستيطانية، وبالتالي انزواء القضايا "التكتيكية" إن صح التعبير، ووصول الطرفين إلى قضايا الحل الدائم، حتى لو لم يتوصلا إلى هذه القضايا من خلال التفاوض.

وبالتالي، يقترب المتنافسون في برامجهم الانتخابية من بعضهم البعض، بحيث تتشابه رؤاهم وتصوراتهم المقترحة، من الحلول المفترضة للقضايا العالقة مع الفلسطينيين، علما بأن الحديث في التقارب بين البرامج الانتخابية يدور حول الأحزاب الكبرى الثلاث: كاديما، العمل، الليكود.

  • التعامل مع معضلة حماس في غزة

لم يعد سرا أن التعامل مع المستجد الفلسطيني الأكثر سخونة على الساحة الإسرائيلية، شكل القاسم المشترك الأكبر بين هذه الأحزاب، وقد برز ذلك على الأقل من خلال الدعاية الانتخابية لحزب الليكود، الذي أخذ يزاود على غريمه كاديما، واتهامه بالتساهل مع حماس.

ولذلك فإن موقف الليكود من الحكومة التي تترأسها حركة حماس يكمن في رفض فكرة "ترويض" الحركة ودفعها نحو الاعتدال، وقد عبر عن ذلك بصورة جلية واضحة أحد رموز الليكود "يوفال شطاينيتس" رئيس لجنة الخارجية والأمن البرلمانية السابق، الذي أشار إلى أن حماس "جزء من حركة الإخوان المسلمين العالمية، وهي بهذه الصفة حركة إسلامية أصولية تشبه في أيديولوجيتها نظام "آيات الله" في إيران".

ويعتقد حزب الليكود أن حماس مثلها مثل باقي الحركات الإسلامية التي يمكن أحياناً أن تتغير تكتيكياً وبصورة مؤقتة، لكنها لن تتخلى أبداً عن الأيديولوجية الكامنة في صلب جوهرها، لذلك يعتقد الليكوديون بأنه لا يجوز لإسرائيل أبداً القبول بدولة "حماس" مسلحة إلى جانبها، والتي ستكون بشكل طبيعي في تحالف وثيق مع إيران حسب زعمه، حتى وإن أظهرت زعامة الحركة مرونة براغماتية في الطريق إلى هدفها النهائي المتمثل بتدمير إسرائيل.

ولعل الموقف الأكثر وضوحا لحزب الليكود في التعامل مع حكومة حماس جاء معبرا عنه زعيمه "نتنياهو"، حين أعلن أكثر من مرة أنه يجب علينا أن نعمل ونتحرك، لأن ضعف السلطة الفلسطينية وصعود حماس يشكلان خطرا علينا، في غزة يتمثل الخطر في صعود "دويلة إرهاب" بقيادة حماس، وفي الضفة الغربية يتمثل الخطر في إمكانية قامة دولة "إرهاب حماسية" أكبر، تتبنى نموذج غزة، وتهدد القدس وتل أبيب والبلاد بأكملها".

حزب الليكود بهذا الطرح المتطرف من التعامل مع قيادة فلسطينية منتخبة متمثلة بحركة حماس يختلف عن منافسه حزب كاديما الذي لم يعر انتباها كثيرا في اختلاف القيادة الفلسطينية، سواء كانت بزعامة فتح سابقا، أو حماس حاليا، من خلال التوضيح أكثر من مرة أن إسرائيل بينت شروطها للحوار مع أية زعامة فلسطينية وهي: وقف العنف، وتجريد المنظمات الفلسطينية من سلاحها، والالتزام بالتعهدات والاتفاقيات الموقعة بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، والاعتراف بدولة إسرائيل، وحذف البنود التي تدعو في ميثاق "حماس" إلى إبادة إسرائيل.

وقد أشار إلى هذا عدد من قيادات الحزب، أبرزهم "آفي ديختر" رئيس جهاز الشاباك السابق، الذي قدم طرحا تتعهد بموجبه السلطة الفلسطينية – أيا كانت- بخارطة الطريق وبضمانات دولية بسلطة واحدة وقانون واحد وسلاح واحد، وكل من لا يحرص على تنفيذ هذا التعهد إنما يضعف دولة إسرائيل والاتفاقيات الموقعة بضمانة دولية.

من جهته، أبدى حزب العمل مرونة ملحوظة في إمكانية أن تحاور إسرائيل حكومة حماس، مع التزام الأخيرة بالشروط التقليدية التي أعلنتها تل أبيب، وهي:

  • الاعتراف بوجود دولة إسرائيل كدولة للشعب اليهودي.
  • نزع الحركة لسلاحها وتوقف كل أعمال العنف.
  • الالتزام الكامل بالاتفاقيات الموقعة بين السلطة الفلسطينية والحكومات الإسرائيلية منذ اتفاق أوسلو.

في هذه الحالة، وفي الوقت الذي تبدي فيه حماس التزاما معلنا، يؤكد حزب العمل أنه لن يبقى من سبب يمنع اعتبار حماس أهلاً للحوار في إطار مفاوضات تجري في نطاق خارطة الطريق.

ملاحظة في غاية الأهمية، تتعلق بأن سيطرة حماس على قطاع غزة، وتقويها أكثر فأكثر، عسكريا وسياسيا وإقليميا، مقابل التراجع المريع للسلطة الفلسطينية في تلك المجالات الثلاث، قد يجعل الأحزاب الإسرائيلية في حالة تغيير متوقع من مواقفها المعلنة من حركة حماس إن بقي الحال على ما هو عليه.

  • الحلول مع السلطة الفلسطينية

حزب كاديما قبيل تدهور الأوضاع مع الفلسطينيين خلال العامين الأخيرين، لم يخف رغبته منذ البداية في استنساخ تجربة الانفصال أحادي الجانب من قطاع غزة في الضفة الغربية، أو بعض أجزائها على أقل تقدير، لاسيما وأنه يعتقد أن المهمة المركزية أمام الحكومة الإسرائيلية القادمة تكمن في تحديد خطوط حدود آمنة ودفاعية توفر أقصى الأمن لمواطني إسرائيل، هذه الخطوط الحدودية ستشمل حسب رؤية الحزب كتل الاستيطان ومناطق الأمن ومن ضمنها غور الأردن، والمحافظة على القدس موحدة وضمان أغلبية يهودية في دولة اليهود.

هذا الموقف الانفصالي في حينه يعارضه بشدة حزب الليكود، لذات الأسباب التي أعلنها فور تنفيذ خطة الانسحاب أحادي الجانب من قطاع غزة في سبتمبر 2005، من حيث أنها ترسخ الاعتقاد الفلسطيني بأن هذا الانسحاب إنما هو هروب إسرائيلي حتمي تحت ضربات المقاومة!

مع ذلك، فإن الليكود لا يعارض أن يقتصر الإخلاء المتوقع من الضفة الغربية في هذه المرحلة فقط على مواقع الاستيطان غير القانونية، كما أن تخفيف وتقليص القيود والحواجز أمام حرية تنقل الفلسطينيين، أمر مشروط بأن تعمل السلطة الفلسطينية بالقوة وبشكل حازم على وقف الجماعات المسلحة وتفكيك قواعدها، وهو ما تقوم به اليوم بكل جدارة في الضفة الغربية بإشراف جنرالات المارينز الأمريكيين!

وبين الليكود وكديما يتخذ العمل موقفا مبدئيا معارضا لأي إخلاء قسري من جانب واحد لا يتم في نطاق فكرة واضحة للانفصال عن الفلسطينيين، ويتوافق هذا الرفض مع الموقف السياسي المعلن للحزب بمعارضة نقل مناطق إلى سيطرة فلسطينية طالما أنها لا تتم في إطار عملية انفصال سياسي واضحة، الأمر الذي يتعين على الحكومة الإسرائيلية التي ستستلم السلطة وضع هدف سياسي يقوم على دولتين توجد بينهما خطوط حمراء واضحة:

  • عدم عودة أي لاجئ فلسطيني إلى إسرائيل في إطار أية عملية سياسية.
  • ضم كتل المستوطنات الكبيرة إلى إسرائيل.
  • مستقبل المواجهة: سياسيا وعسكريا

تحتل الانتفاضة وملاحقة قوات الاحتلال لقوى المقاومة حيزا كبيرا في برامج الأحزاب والدعاية الانتخابية الإسرائيلية، بحيث أخذت الأحزاب تزاود على بعضها من حيث اتهامها للحكومات المتعاقبة خلال سنوات انتفاضة الأقصى بالفشل الذريع في وقف مدها، والتراجع المريع في إجراءاتها الأمنية ضد المقاومين، رغم ما قد يبدو نجاحا هنا، وإنجازا هناك.

            حزب الليكود الذي كان ينظر إلى حكومة كاديما السابقة وزعامته المنهكة في غرفة الإنعاش، بنظرة ملؤها الازدراء والإقرار بالفشل المدوي لها، وعلى حد قول أحد زعامات الليكود فإن إسرائيل كسبت معركة لكنها خسرت حرباً في صراعها الدائر مع الفلسطينيين.

ويجتهد خصوم كاديما، المعارضين لاتفاق التهدئة مع حركة حماس، من رموز الليكود والمعسكر اليميني المتدين في إثبات هذه الحقيقة الأمنية، من خلال عقد مقارنة بين حرب إسرائيل ضد حركة حماس، والحرب الأميركية ضد تنظيم القاعدة، على النحو التالي:

  1. تكتيكيا: نجد أن إنجازات الجيش الإسرائيلي و"الشاباك" في مجالات الاستخبارات والدِقة، والحدِّ من الخسائر كانت بصورة عامة أفضل من إنجازات الولايات المتحدة وبريطانيا في أفغانستان، فقد نجحت إسرائيل في الوصول إلى صورة استخبارات جيدة إزاء حماس، وحتى اغتيال وتصفية قيادات في زعامة الحركة، وهو ما مُني فيه الأميركيون بالفشل ضد القاعدة. 
  2. استراتيجيا: عند النظر إلى الصورة الشاملة تتكشف للإسرائيليين أمور مغايرة تماماً، إذ فقدت منظمة "القاعدة" قواعدها في أفغانستان، وفقدت قدرتها على التجنيد، وعلى تعبئة وتدريب آلاف الشبان المسلمين، وتعرضت في الوقت ذاته إلى ضربة قاسية، بما في ذلك زوال الركيزة السياسية للتنظيم والمتمثلة بنظام طالبان، في المقابل نجد أن حركة حماس أقامت في قطاع غزة قواعد تدريب علنية تدرب فيها آلاف المتطوعين الشبان، وصناعة صواريخ وتطوير أسلحة بصورة شبه علنية، كما تعززت المكانة السياسية للحركة نتيجة سيطرتها على قطاع غزة العام الماضي.
  3. تاريخيا: كما حصل في حالات سابقة في التاريخ، فقد أخفق المستوى السياسي الإسرائيلي في ترجمة التفوق العسكري إلى نصر في الحرب، ولعل العزاء الوحيد هو في أنه ما زال بالإمكان، عبر سلوك أو تصرف أكثر حكمة وشجاعة، كبح جماح حماس وما تشكله من تهديد لعمق الدولة الإسرائيلية.

في المقابل، يحاول كديما تفنيد هذه المقارنات باعتبارها غير موضوعية ولا تتلاءم مع الواقع المعاش، في ضوء أن محاربة الجماعات المسلحة هي محاربة مكثفة، يومية، متطورة ومتقدمة، وكما أسماها "شاؤول موفاز" فإنها سباق ماراثوني طويل، وليس عدوًا لمسافات قصيرة، وقد تخطت إسرائيل العوائق التي وضعها في طريقها أولئك الذين يتربصون بها، وهي من الدول المتصدرة للكفاح العالمي ضد تلك الجماعات.

ويزعم كديما أن محاربة إسرائيل لقوى المقاومة، وعلى رأسها حركة حماس، كلَّفت ثمناً باهظاً، ومع ذلك فإنها – المقاومة-نجحت في الحد من حجمها، وحرمتها من تحقيق الهدف الأكثر أهمية وهو فقدان الشعور بالأمن لدى الشعب، وهذا إنجاز مهم جداً لأجهزة الأمن الإسرائيلية، وربما أكثر من ذلك للمجتمع الإسرائيلي، وبهذا المنظور يمكن القول-يروج منظرو كاديما-  إن الذراع الإسرائيلية تغلبت على سيف المقاومة! 

وفي محاولة للرد على كل الاتهامات الموجهة للحزب في إخفاقه في الرد على المقاومة، لاسيما الصواريخ المتلاحقة ليل نهار على المستوطنات المجاورة لقطاع غزة، تشير مواقف كديما إلى أن خطأ دولة إسرائيل يكمن في أنها لم تقم، في موازاة بناء الجدار الأمني حول منطقة قطاع غزة عام 1994، ببناء جدار مشابه في الضفة الغربية حتى العام 2003، وهذا الخطأ شاركت فيه حكومات العمل والليكود على السواء!

إلا أن حزب العمل –الذي يشهد تراجعا مريعا في شعبيته مؤخرا- يتخذ لنفسه موقفا وسطا بين هذه الاتهامات المتبادلة بين "أصدقاء الأمس أعداء اليوم"، فهو يرى أن النصر لا يُقاس بعدد المرات التي احتل فيها الجيش الإسرائيلي مدن رام الله وجنين ونابلس، أو بعدد عمليات الإحباط التي قام بها الشاباك، ويتجه في هذا المحور يسارا باتجاه مواقف "ميرتس" من حيث الاعتراف بالخطأ الجسيم الذي ارتكبته حكومات إسرائيل خلال السنوات الخمس الأخيرة، الذي يتمثل بالأساس في الفهم المغلوط للهدف السياسي، وفي الاستخدام الخاطئ للقوة العسكرية المتاحة للدولة.

وفي ذات الوقت، تعتقد معظم الوجوه الأمنية في حزب العمل بالقاعدة العسكرية القائلة: من يسعَ إلى قتلك، سارع إلى قتله!! فهذا بنظرهم واجب أخلاقي يجب أن يكون الأساس والمنطلق لعمل الجيش ضد الجماعات الفلسطينية المسلحة، وفي الوقت ذاته الإسراع في بناء الجدار، وخلق فصل من خلال إقامة معابر على امتداد الجدار، وفتح الجسور والمعابر إلى الأردن ومصر، والامتناع قدر الإمكان عن إقامة حواجز ونقاط مراقبة وتفتيش بين التجمعات الفلسطينية.

  • خيارات إسرائيل اليمينية

ومهما قيل عن كلام وتسريبات عن إبرام اتفاق التهدئة الجديد، وفي ظل الشكل الموقع للحكومة الإسرائيلية القادمة، فقد بدا واضحا لكل ذي بصر وبصيرة أن الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة لم تحقق أهدافها، لا إسرائيليا ولا فلسطينيا ولا إقليميا، كيف ذلك؟

  • جولة لم تكتمل

إسرائيليا: فإن آلة الحرب الأعتى في المنطقة لم تنجح في الإطاحة بحماس وحكومتها في غزة بالرغم من آثار الدمار المنتشرة في كافة أرجاء القطاع، وتسطير المقاتلين في ميدان المقاومة لمواجهات عز نظيرها في التاريخ العسكري الإسرائيلي الحديث والمعاصر.

وما زالت المقاومة تحتفظ بمخزونها "المعلن" على الأقل من القذائف الصاروخية التي تستطيع تذكير حكام تل أبيب بقدرتها على إزعاجهم بين الحين والآخر، أكثر من ذلك، فمن الواضح أن توسيع "بقعة الزيت" التي هددت بها كتائب القسام بات أمرا موثوقا بها.

كما أن "تغيير الواقع الأمني" الذي بات "سيمفونية" يرددها القادة الإسرائيليون، الساسة والعسكر على حد سواء، طوال فترة أيام الحرب، لم يجد طريقه للتنفيذ، على العكس من ذلك، فقد "ترسخ" الواقع الأمني والسياسي، وخرجت حماس من هذه الحرب التدميرية أقوى من ذي قبل.

فلسطينيا: يبدو أن الأهداف التي رغبت بتحقيقها قوى المقاومة من وراء هذه المواجهة لم تجد طريقها للتنفيذ، لاسيما فيما يتعلق بفتح المعابر، والاعتراف بالحكومة القائمة، والتعامل معها كنظيرتها في رام الله، إلى حين تسوية الأزمة الفلسطينية الداخلية، ونصل لحكومة واحدة لسلطة مهترئة استنفذت فترة صلاحيتها منذ زمن، ويا ليت قومي يعلمون!

إقليميا: فإن مطالبة "حز الرؤوس" التي سربت للإسرائيليين، ومنحوا بموجبه الضوء الأخضر، والسقف الزمني اللازم، أخفقت وباءت بالفشل، وبقيت حماس "غزة" في خاصرة بعض العواصم المجاورة، تعاني "صداعا مزمنا" من حدودها الشرقية تحديدا.

دوليا: للمرة الثانية "تخيب" إسرائيل ظن العالم بها، لاسيما الدول الصديقة والحليفة التي منحتها الدعم السياسي والغطاء العسكري والزمن المفتوح بدون حدود، ولم تنجح في كانون ثاني 2009 بإيقاع "الهزيمة" بتنظيم مسلح يخوض حرب عصابات، كما تكرر في حرب تموز 2006.

هذه الوقائع تشير بما لا يدع مجالا للشك إلى أن الحرب لم تنته عمليا، بأبعادها السياسية والإستراتيجية، وما توقف فعلا هو هدير المدافع وأزيز الرصاص وغبار الدبابات، ليس أكثر، وأن الأطراف مجتمعة لم "تقض وطرها" من الحرب.

وهو ما يشجعها للعودة من جديد، سواء لتحسين شروط التفاوض، أو محاولة تطبيق توصيات منظريها العسكريين، والاطمئنان إلى أن مقاتلي الجانبين قد أتقنوا فنون المواجهة العسكرية، بصبغتها "الغزية" هذه المرة.

  • سيناريو افتراضي

في أعقاب انتهاء عملية "الرصاص المنصهر"، لم يدع مجال للنقاش في أن إسرائيل وحلفاءها من عرب وعجم لم ينتصروا فها، وفي المقابل فإن حماس وأخواتها لم تنكسر هي الأخرى، الأمر الذي يقفز بالأذهان تلقائيا لفرضية عدم تجديد التهدئة الهشة أصلا، حتى لو استمعنا عن تقدم هنا وموافقة هناك، فإسرائيل هي اللاعب الأساسي في هذا الملف العسكري الميداني البحت.

وما دام أن الأطراف الفلسطينية والمصرية الماثلة أمامنا في المشهد السياسي، راغبة في تهدئة طويلة الأمد نسبيا، فماذا عن الطرف الإسرائيلي الذي سيتغير حتما خلال أيام قليلة، ولن أفسح خيال القارئ ليتصور طبيعة التحالفات المتوقعة في الحكومة الإسرائيلية القادمة.

النقاش الجاري في مصر اليوم حول الإعلان عن اتفاق تهدئة لمدة عام أو عام ونصف، لا يقوى كثيرا على الصمود طالما لم تكن إسرائيل الرسمية حاضرة في تفاصيله، ومقرة ببنوده، ومتعهدة على الإيفاء باستحقاقاته، وإلا سنعود من حيث انتهينا، وتعود دورة الدمار الإسرائيلي من جديد في شوارع غزة وأزقتها، التي باتت تشكو ساحات جغرافية يتناثر بها الفلسطينيون، لا يتقنون فيها سوى المهرجانات والاستقبالات، ومنح الهدايا والتحيات!

   الحوادث الأخيرة التي أعقبت توقف العمليات نظريا، واستهدفت بعض المقاومين والمستوطنين، وعمليات متبادلة من قوى المقاومة وإسرائيل، تدفعنا للبحث عن طبيعة الرد الإسرائيلي المتوقع، طالما استمعنا ارتفاعا للهجات الساسة الإسرائيليين التي تهدد وتتوعد، ولو افترضنا أنها تهديدات انتخابية، فتعالوا بناء نرسم السيناريو المتوقع لحكومة مستقرة، يقف على رأسها أحد الثلاثي القادم: نتنياهو-ليفني-باراك.

أي عملية قد تبادر لها قوى المقاومة من الآن فصاعدا، سواء تفجيرا لدورية عسكرية، أو تكرار لضرب الصواريخ، أو عودة طال انتظارها للعمليات الاستشهادية، وربما من يعلم، الإتيان برفيق درب للجندي الأسير "جلعاد شاليط" يؤنس فيه وحشته، ستعني للحكومة الإسرائيلية دون أدنى شك توجيه رد بصورة قوية ضد العناصر التي نفذت العملية، والرؤوس التي دبرت لها، وأرسلتهم لتنفيذها.

لكن ذلك يتطلب منها، وكجزء من استفادتها من حربها الأخيرة على غزة، أن توفر عددا من العوامل الأساسية، وهي:

  • الإطار الزمني للعملية العسكرية.
  • تحديد الأهداف المرشحة للهجوم عليها.
  • الشروط الواجب توفرها لإنهائها.

وإلى جانب ذلك، ستكون الحكومة منساقة للموافقة على ما وصلها من قبل الجيش من معطيات وتوصيات عسكرية، آنية وإستراتيجية.

  • البدائل المتوقعة

وفقا لقراءتي التقديرية، سيتحدد الرد الإسرائيلي المتوقع في نطاق ثلاثة بدائل أساسية:

  1. البديل الأول: عملية عسكرية محدودة، دون دخول قوات الجيش لقلب الأراضي الفلسطينية، إلى جانب القيام بجهود سياسية دبلوماسية، في محاولة للتأثير، أو إيصال رسائل إلى الأطراف الإقليمية، والدخول في مفاوضات مكثفة –غير مباشرة- مع قوى المقاومة، حماس تحديدا.

الخطوط العامة التي سترسم أمام صانع القرار حين ينظر لهذا البديل مشابهة إلى حد كبير لطبيعة الرد الإسرائيلي في أعقاب خطف شاليط أواسط 2006، وموجة الصواريخ المكثفة أواخر 2007، ما يعني أن يتلخص رأى الساسة الإسرائيليين في أن بإمكاننا المضي قدما في ذات السياسة التي درجت عليها الدولة منذ سنوات.

ومع ذلك، فإن ردا إسرائيليا بهذه الوتيرة سيقابله استعداد متوقع من قبل قوى المقاومة، ما يعني بقاء الوضع القائم على حدود الجنوب محافظا عليه كما كان قبل اندلاع المواجهة.

علما بأن الوزراء الإسرائيليين القادمون على مقاعد الحكومة يدركون جيدا أن استحضار بديل آخر من شأنه التأثير في الجوانب التالية:

  • المس بقوة الردع الإسرائيلي.
  • إزالة تهديد حماس وقوتها العسكرية.
  • حرية التحرك العسكري والعمل السياسي، وتحسين الموقف الدبلوماسي.
  • تغيير موازين القوى السائدة بين إسرائيل وحماس، لصالح الأولى بالتأكيد.

لكن منذ اللحظة الأولى سيشعر وزير الدفاع القادم ورئيس هيئة أركانه أن ثغرات هذا البديل أكثر من إيجابياته، وبالتالي من الممكن الخروج بعملية سريعة قاسية، تكون مثلا هجوما جويا مركزا على أهداف لحماس، في الداخل والخارج، وربما في قلب عاصمة راعية لها!

الثغرة الجوهرية في هذا البديل، تتمثل في افتقاد إسرائيل لوجهة الإصابة الحقيقية للقوة العسكرية التي تمتلكها حماس، ما يعني أن رد الحركة –المؤكد بصورة حتمية- قد يستدرج إسرائيل لعملية عسكرية لم تستعد لها جيدا، أو أن يتوقف إطلاق النار بسبب التدخلات الدولية، لكن بعد أن تتعرض الجبهة الداخلية الإسرائيلية لضربات مؤلمة في الصميم.

    1. البديل الثاني: رد عسكري فوري مشابه لما ذكر عليه في البديل الأول، شرط تحضير القوات العسكرية والجبهة الداخلية للدخول مستقبلا لمواجهة عسكرية مع حماس، بصورة أكثر دموية واشتباكا، لدرجة اقتراب المقاتلين من مرحلة "الاقتحام والالتحام".

يتضمن هذا البديل في جوهره وضع حد لسياسة "ضبط النفس"، لكنها في ذات الوقت تستحضر القوات العسكرية، وتهيئ الجبهة الداخلية، والجهاز السياسي، لمواجهة مستقبلية من هذا النوع، وبالتالي بالإمكان المضي قدما في تفاصيله ومعطياته التي تقربنا أكثر للبديل الثالث لاحقا.

والثغرات التي تصيب البديل الثاني، هي ذاتها ثغرات البديل الأول، خاصة بكل ما يتعلق بالتبعات والآثار قصيرة المدى للرد الإسرائيلي.

عيب إضافي يزيد على ما سبق، أنه يستبعد إمكانية إحداث تغيير استراتيجي في الوضع الميداني القائم، الأسوأ من نوعه، بين إسرائيل وحماس، إلى موعد غير معلوم، في الوقت الذي تستمر فيه الحركة بـ"تسمين" قواتها وزيادتها.

    1. البديل الثالث: الدخول على الفور في عملية عسكرية وسياسية كبيرة.

ويشير بصورة واضحة إلى ضرورة الخروج بقرار يطالب بحرب ضد حركة حماس، وتتمثل الإيجابية الأكثر وضوحا في هذا البديل لإسرائيل في عدم توقع الخصم له، وامتلاكه لقدرة على تقييد قوة الحركة، عقب القراءات الصحيحة التي وصلت لخلاصة مفادها أن ضربة عسكرية قاسية، ستأتي بنتائج أهمها توجيه ضربات قاضية لمنصات إطلاق الصواريخ التي ستشكل الرد الأكثر نجاعة لحماس.

علما بأن الاقتصاد الإسرائيلي في وضع يمكنه من توفير دعم وإسناد لمختلف التبعات الاقتصادية المحتملة لأي مواجهة عسكرية قاسية، كما حصل في المواجهة الأخيرة داخل قطاع غزة، خاصة وأن القدرة الفعالة للمقاومة في الضفة الغربية، ضعفت لحد كبير للأسف الشديد.

كما سيحظى قرار الخروج بعملية عسكرية واسعة، وتوجيه ضربات مؤلمة وثقيلة على التجمعات السكانية الفلسطينية، بتأييد واسع في أوساط الجمهور الإسرائيلي.

وباستثناء التغيير في طبيعة الوضع الميداني القائم، باتجاه كسر الردع الذي مثلته حركة حماس في مواجهة إسرائيل، فإن عملية عسكرية واسعة بإمكانها أن تمس بصورة مباشرة وصعبة بقوة الحركة.

وبالتالي يجيء هذا البديل باتجاه المبادرة لعملية عسكرية واسعة، ليلغي مسبقا أي إمكانية لاستدراج إسرائيل إلى حرب بعكس إرادتها في أعقاب رد حماس، ولذا فإن نجاحها في عمليتها العسكرية سيردع الحركة طويلا، وربما يصل هذا الردع لعواصم مجاورة كما تعتقد تل أبيب.

الثغرة الأكثر وضوحا في هذا البديل، تتمثل بافتتاح معركة عسكرية دون استكمال المعطيات العملياتية، التحضيرات اللوجستية، الجبهة الداخلية، لمواجهة متوقعة أمام حماس.

ومع ذلك، فإن مواجهة عسكرية بين الطرفين في منطقة ليست كبيرة جغرافيا، وعددا ليس كبيرا من مقاتلي الحركة، وفي إطار حرب كاملة تعطي هامشا واسعا للجيش الإسرائيلي للتحرك، سيكون ميزان القوى بالتأكيد لصالحه، وستكون يده العليا.

وبالرغم من كل ما تقدم، يبقى هذا البديل الأكثر إغراء لصناع القرار الإسرائيلي، سواء ما تعلق بالقدرات البشرية للجيش، أو للأهداف المفضلة أمامه، أو حتى للمجتمع الإسرائيلي، وفي ظل هذا الوضوح الكامل، سينبغي الخروج لعملية عسكرية سريعة فورا، بعيد حصول أي عملية للمقاومة الفلسطينية.

  • درس من حرب غزة

الدروس والعبر التي استخلصها الجيش الإسرائيلي من حربه الأخيرة على غزة، ستبقى ماثلة أمامه في الغرف المغلقة والدورات التدريبية والتأهيلية لضباطه ومقاتليه، لكن أهم ثغرة تعتقد أوساط عسكرية أنه وقع فيها أنه قام بالفعل بتوجيه ضربات جوية باتجاه أهداف لحركة حماس وحكومتها، لكنه في ذات الوقت "فرط" في وقت ثمين وكبير حين تأخر في إنزال القوات البرية للمعركة، وإدخالهم لمجريات الحرب.

هنا، وهنا بالذات، افتقدت إسرائيل للفكرة العملياتية الحربية الواضحة والحاسمة، التي منحت بصورة أو بأخرى نقاطا إيجابية لصالح حماس، ولذلك جاءت بداية العملية العسكرية كـ"مهمة عملياتية"، وانتهت كـ"حرب"، معبرة بصورة مؤسفة عن عدم الوضوح بالنسبة لتقدير حجم العملية العسكرية وتبعاتها، وبالتالي اتضح هذا الغموض في التأثيرات السلبية على تحديد أهداف الحرب، وكيفية إنجازها.

وحسب رأي عدد الخبراء العسكريين الذين بدأوا بتوجيه سهام نقدهم للأداء العملياتي الإسرائيلي في الحرب الأخيرة، فإن السلوك المتوقع في أي حرب -تبدو قادمة وقريبة على أي من الجبهات المرشحة- يتمثل بتوجيه هجمات جوية مكثفة ومركزة على أهداف معروفة لحركة حماس، مرة أخرى في الداخل والخارج، مع الحاجة الماسة لعملية برية في قلب غزة، وضرورة "خروج سياسي سريع"، بالتنسيق مع الأطراف السياسية الإقليمية والدولية.

ومن وجهة نظر أصحاب هذا البديل، فإن خطوة كهذه ستحقق إنجازات سياسية وعسكرية إسرائيلية ذات قيمة كبيرة، دون أن تتكبد خسائر بشرية من قتلى وجرحى، وعبر اختصار مدة الحرب، وحماية الجبهة الداخلية من أي ضرر.

أخيرا... هذه أبرز المواقف الحزبية الإسرائيلية المعلنة من قضايا الساعة، ورغم أن معظمها دار في خضم الانشغال بالدعاية الانتخابية، وتقديم وعود مجانية للناخب الإسرائيلي، إلا أن جزءا منها وجد طريقه فعليا إلى التنفيذ بصورة واضحة، في ضوء البيان الوزاري الذي قدمه "نتنياهو" لنيل ثقة الكنيست، وما تعلق بالتصعيد العسكري غير المبرر ضد الفلسطينيين مؤخرا، وتحديدا في قطاع غزة، وهو أمر يتجاوز ابتزاز اللحظة الانتخابية إلى كونه عرفا ونهجا إسرائيليا دائما وليس موسميا أو انتخابيا!